إشراقة
المُتَطَفِّل
من نوع آخر
المُتَطَفِّل
أو
الطُّفَيْلِيُّ
هو: الذي يغشى
الولائمَ
والأعراسَ
والمجالسَ
ونحوَها من
غير أن
يُدْعَىٰ
إليها. ويقال:
إنه منسوب إلى
«طُفَيْل»
وهو رجل من
أهل الكوفة من
بني عبد الله
بن غَطَفَان،
كان يأتي
الأعراسَ
والولائمَ
ونحوَها، ولا
يقعُدُ عن
وليمة ولا
يتخلّف عن
عُرْس. ويقال
له: طفيل
الأعراس أو
العرائس،
فنُسَبَ إليه
كلُّ من يفعل
فعلَه.
وقد
ألَّف
علماؤنا في
الطفيليين،
وأبانوا الأضرارَ
الخطيرةَ
التي
يُسَبِّبها
الطفيليّون
لأبناء
المجتمع الذي
يُمْنَىٰ
بهم؛ لأن
أمراضهم
النفسيّة
تنتشر في
المجتمعات
مثلَ الأمراض
المعدية؛
لأنها
تُسَمِّم الأجواءَ،
وتثير
حَزَّازَات
وعداوات، وفتنًا
وانشقاقات
بين أعضاء
مجتمع واحد.
وممن
ألّفوا من
علمائنا في
الطفيليين
وشرّهم
وخبثهم ابن
الجوزي (عبد
الرحمن بن علي
بن محمد
الجوزي
القرشي
البغدادي أبو
الفرج المؤرخ
المحدث
الكثير
التصانيف 508-597هـ
= 1114-1201م) والخطّابي
(حمد بن محمد
بن إبراهيم بن
الخطاب
البستي أبو سليمان
الفقيه
المحدث 319-388هـ =
931-998م) وغيرهما
من العلماء.
وإذا
كان
الطفيليُّ في
أصل معناه هو
دخول المرء
على طعام
الغير ليأكل
منه من غير
إذنه وبدون
رضا منه، أو
أكل الضيف
زائدًا على
الشبع من غير
أن يعلم رضا
مضيفه، فإنّه
قد
يُسْتَخْدَم
توسّعًا في
معنى أن يكثر
الإنسان
الأكل من مال
نفسه بحيث
يعلم أنه
يُسَبِّب له
ضررًا بالغًا.
وقد جَرَّب المجتمع
البشري وعلم
بعد التجربة
أن أسوأ العادات
أن يتوسّع
المرأ في
المأكل
والمشرب فوق الحاجة.
و الطفيلي في
معناه
المجازي كذلك
شرّ مستطير
يتضرّر منه
القاصي
والداني. وهو
الحرص على
التسرّب إلى
أسرار الناس
عن وجه غير مشروع
وبدون رضاهم.
وكما أن
التطفل في
معناه الأصلي
فتنة خطيرة تصيب
المجتمع
فتضرّه ضررًا
خطيرًا، كذلك
التطفل
المعنويّ آفة
من أدهى
الآفات تصيبه
فتُشَكِّل له
مصيبة ملازمة.
وله أنواع
وأشكال، ومن
أبرزها في هذه
الأيّام هو
حرص المرء على
معرفة أسرار
الناس أو على
الاطّلاع على
أمور لا تعنيه
ولا تتصل به
وإنما تخصّ
غيره. وذلك
سلوك سَيِّء
وموقف لا
يحبّه رجلٌ
رُزِقَ ذرّةً
من استقامة
السيرة وجميل
السلوك
والعقل
الـمُمَيِّز
بين الخير
والشرّ.
إن
تتبّع
خصوصيّات
الغير،
والتجسّس على
أسراره بأي
طريق من طرق
السمع
والتنصّت، أو
القراءة
والكتابة، أو
التحادث
والتكلم،
وبأسلوب
مُبَاشِر أو
غير
مُبَاشِر،
سلوك ذميم
وصفة قبيحة
وخلق لا يقرّه
العقل السليم
الذي يقتضي أن
يحترم الكلُّ
خصوصيّات
الآخرين
ويراعي أسرارهم،
ولا يُسَبِّب
لهم الحرجَ
والتضايقَ
بالتسمّع
لحديثهم
والرؤية
الخفيّة
الـمُسْتَرَقَة
لما لا يجوز
له رؤيته؛
لأنّ ذلك كله
يأتي ضمن
التجسّس على
الآخرين. ومن
عادة هذا النوع
من المتطفلين
هو اللجاجة
والإلحاح
وصبّ الأسئلة
على من
يُمْنَىٰ به
من سوء حظّه،
فهو يتساءل
إليه ويستقصي
ما عنده من
الأخبار
ويواصل
تَسَقُّطَ ما
لديه من
المعلومات
التي قد يَضَنَّ
بها حتى على
أحبّ الناس
إليه.
وقد
حَكَىٰ على
كاتب السطور
أحدُ أقربائه
أنه اتّصل بأحد
معارفه
لضرورة
مُفَاجِئَة
أَلْجَأَتْه
إلى الاتصال
به في مدينة
«دهلي»
فأَمْطَرَ عليه
وابلاً من
الأسئلة: متى
وردتَ دهلي؟
وما الذي
أَقْدَمَك
إليها؟ وأين
نزلتَ؟.
وعندما أحاطه
علمًا بأنّه
نزل على فلان
الذي هو أحد
معارفه
بالمدينة
مثله.
تَوَجَّه
إليه من الأسئلة
بما لم يكن
بحسبانه: ماذا
يصنع؟ أيَّ
حيّ من أحياء
المدينة
يسكن؟ ما هو
عنوانه؟ ما هو
رقم جوَّاله؟
هل يشغل وظيفة
حكومية أو
أهليّة؟ وكم
هو راتبه؟
وعلى كم عضوًا
تشتمل عائلتُه؟
وكم ابنًا
وبنتًا لديه؛
وماذا
يتعلّمون؟ وكيف
حصل التعارف
بينك وبينه
ومتى؟ وهل
يمكن أن أزوره
من وقت لوقت؟
وكيف هو في
سيرته وسلوكه،
هل يستقبل
الضيوفَ
والزُّوَّارَ
ببشر وترحاب
أو بعُبُوس
وقُطُوب؟ وهل
هو جواد كريم
أو شحيح
بخيل؟. ثم
سأله: وما هي
الحاجة التي
اضْطَرَّتْك
أن تنزل عليه
وتتصل به؟
ولماذا لم تتصل
بي لهذه
الحاجة؟ وما
السبب في
رغبتك عني إليه
بشأنها؟.
وعندما
استمع
الكاتبُ
لقصّة ما جرى
له مع هذا المتطفل
الثقيل
البغيض، قال
له: لو كان
كاتبُ هذه
السطور
مكانَك، لانهال
عليه ضربًا
باليمين بكل
ما عنده من
القوة، أو
لزجره زجرًا
رادعًا
مُوَبِّخًا
كان من شأنه
أن يجعله يعود
لرشده، ويتوب
من غيّه، ويُغَيِّر
مسارَه
الشاذَّ هذا
في حياته. قال
القريبُ: لم
أقدر أن أهرب
من الموقف؛
لأنه حَاصَرَني
حصارًا
شديدًا
بأسئلته
المُكَثِّفَة
المتصلة
المتتابعة
التي جعلتني
أُصَاب بالغَثَيَان
والإغماء
ونوع غريب من
الخَرَق الذي
يُصَاب به من
يُفَاجِئه
وضعٌ
مُعَقَّد عجيب
كلَّ العجب لم
يكن به عهد في
ماضي حياته
كلها. وكثيرًا
ما قاطعتُه
قائلاً: إن
بعض الأمور تكون
مضنونًا بها
على غير
أهلها، فلا
أحبّ أن أجيب
عن كثير من
أسئلتك التي
لا تُصَنَّف
عندي إلاّ في
جدول
«المضنون به
على غير
أهله»؛ ولكنه
ظلّ يُلِحّ
ويكثر
ويعييني
بأسئلته. و
والله إني
تبتُ من أن
أتصل به بعدُ
ما دمتُ
حيًّا؛ لأنه
ليس إنسانًا
وإنما هو أسوأ
نوع من البهيمة.
وكثيرًا
ما ابْتُلِيَ
الكاتب بالطفيليين
من هذا النوع،
وكان بعضهم
أذكياء فتجسّسوا
على الأسرار
والخصوصيات
بطريقة لَبِقَة
مُحْرِجَة،
وكان بعضهم
أغبياء
فتصرّفوا معه
لمعرفة ما
يخصّه من
الأسرار
بأسلوب أخرق مُزْعِج
دون أن يشعروا
بأي حرج يشعر
به الأذكياء.
وقد وجد
الكاتب أن
المتطفل إلى
جانب كونه وقِحًا
خبيث النفس
مُغْرِضًا
أنانيّ
الطبع، يكون
بليد الحسّ
لايبالي
بالحرج يصيب
الـمُبْتَلَىٰ
به؛ فلا يهمه
إلاّ معرفة
أخباره
وأسراره التي
يستغلّها
لتحقيق منافع
ماديّة؛ بل
ربّما يتمادى
في تطفله
ويسدر في
غيّه، فيحاول
أن يعرف
السببَ في
الحرج الذي
يتعرّض له
المُبْتَلَىٰ
به. ولا يكتفي
بمعرفة
أسراره،
وإنما يتطرق
إلى معرفة
أسرار غيره عن
طريقه، وربما
يحاول – المبتلى به – أن يهرب
من أسئلته
المتتابعة
الكثيرة
المزعجة؛
ولكنه يحاصره
بحيث لايقدر
على التهرب وصدّه
عن غيّه.
و
وجد كاتبُ
السطور
المتطفلَ
حواسه
مُتَحَفِّزة
غير هادئة،
ونظراته
مُتَقَلْقِلَة
غير مستقرّة،
وتصرفاته
خرقاء غير
أمينة وغير
محتشمة، ومسامعه
دائمًا
مُرْهَفَة
مستعدّة
لالتقاط أي خبر
ومعرفة ما عند
غيره، وإذا
غَشِيَ
مجلسًا أطلق
نظرتَه، فتقع
على خطاب
يقرؤه صاحبُه – المجلس – قراءة
سِرِّيَة،
وأطلق يديه،
فتعبثان بالأوراق
التي بين
يديه، وقد
تتدرجان إلى
مذكرة مكتوبة
في دفتر فيها
أسرار وأمور
خاصّة سَجَّلَها
– صاحب
المجلس – لوقت
الحاجة، وقد
تمتدّان إلى
صحف ومجلات وضعها
مُنَسَّقَة
في جانب من
مجلسه
ليستفيد منها
عندما يحتاج
إليها،
فتُفَرِّقَانِها
وتنشرانها
بنحو أخرق
مُزْعِج مُضَايِق،
وقد يكون – صاحب المجلس
– وضع
علامات بين
صفحاتها
لتحديد مواضع
خاصّة تعنيه
في شأن موضوع
ما، فتنحرف
العلامات كلها
عن مواضعها.
ومن
سيّآت
المُتَطَفِّل
أنه لا يحتفظ
بسريّة
الأسرار التي
يسترقها،
وإنما يذيعها
بين الناس
ويَلَذُّ
تصرّفَه
القبيح هذا.
وأسوأُ جانب
فيه أنه قد
يتدخّل في
علاقات في
منتهى السريّة،
كالعلاقة بين
الزوج
وزوجته،
والعلاقة بين
الرجل
وخليله،
والعلاقات
العائلية المتنوعة
التي لايحبّ
أحد أن يطّلع
عليها غيره
مهما كانت
نوعيّة صلته
به.
ولا
شكّ أن
التطفّل في
معناه
الأصليّ
والتطفل في
المعنى الذي أبانه
كاتب السطور
في السطور
الماضية،
عادة قبيحة
للغاية، لا
يقرّها الدين
والأخلاق وأعراف
المجتمع
البشريّ
الذي، إنما
يستقيم بالتآلف
والتوادد
والتعـاون،
ويفسـد
بالتدابر
والتجسس
والاغتياب
والنميمة
والتحاسد والتباغض.
والتطفل بهـذ
المعنى
الأخــير الذي
شُرِحَ فيما
مضى يثير
العداوة
والبغضاء بين
أعضاء المجتمع
البشري،
ويجعلـه يفقد
الهدوء
والثقة المتبادلة.
وكثيرًا ما
يفقد المتطفل
أصدقاء له بادلوه
الحبّ
والتعاون
والاصطحاب
على كثير من
دروب الحياة؛
لأن عادته
القبيحة
سرعان ما تنكشف
للناس،
فيفتضح
لديهم،
ويهربون منه
حتى في المواقف
التي يكون هو
فيها من أحوج
الناس إلى مساعدتهم
وتعاضدهم
لحلّ مشكلة من
مشكلاته، أو
تفريج كربة من
كربه.
وقد
نهى الله
تعالى عن
التجسّس في
محكم آياته:
«وَلاَ
تَجَسَّسُوا»
(الحجرات/12) كما
نهى تعالى عن
إيذاء
المؤمنين
دونما مقابل،
نهيًا عامًّا
يشمل بالتأكيد
جميعَ أنواع
الإيذاء،
فقال عزّ من
قائل:
«وَالَّذِيْنَ
يُؤْذُونَ
الـمُؤْمِنِينَ
وَالمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا
فَقَدِ
احْتَمَلُوا
بُهْتَانًا
وَإِثْمًا
مُبِيْنًا»
(الأحزاب/58).
ونهى
النبي – صلى
الله عليه
وسلم - عن ذلك
في الحديث
الذي رواه
البخاري
ومسلم عن أبي
هريرة – رضي الله
عنه –
قال: قال رسول
الله – صلى
الله عليه
وسلم -: «إيّاكم
والظنَّ؛ فإن
الظنَّ أكذب
الحديث، ولا تحسّسوا
ولا تجسّسوا،
ولا تنافسوا
ولا تحاسدوا،
ولا تباغضوا
ولا تدابروا،
وكونوا – عبادَ الله – إخوانًا
كما أمركم»
(صحيح البخاري
برقم 6064؛ صحيح
مسلم برقم 2563،
واللفظ له).
وغير
خافٍ على أحد
أن المتطفل من
النوع الذي نتحدّث
عنه، يستجمع
جميعَ هذه
الصفات
المدمرة
للمجتمع
البشري
ولحاملها
معًا، التي
أفصح عنها
النبيّ
الصادق
المصدوق – صلى
الله عليه وسلم
- .
والطفيليُّ
هذا في
مُعْظَم
مواقفه وأغلب
تصرفاته
يَتَتَبَّع
عورات إخوانه
المسلمين. وقد
نهى النبي –
صلى الله عليه
وسلم - عن ذلك،
فعن معاوية – رضي
الله عنه – قال:
سمعتُ رسول
الله – صلى
الله عليه
وسلم - يقول:
«إنك إن
اتّبعتَ
عورات
المسلمين
أفسدتهم، أو
كدتَ أن
تفسدهم» (حديث
صحيح رواه
أبوداود بإسناد
صحيح، برقم 4888).
كما
أنه يظلم
بتصرفاته
المسلمين
ويخذله، ويحقره،
ويدوس ويضيع
عرضَه أو
مالَه. وقد
نهى عن ذلك
كله النبي –
صلى الله عليه
وسلم - في
الحديث
المذكور
سابقًا الذي
رواه أبو
هريرة، والذي
ورد في نصفه
الآخر:
«المسلم أخوا
المسلم، لايظلمه،
ولا يخذله،
ولا يحقره، كل
المسلم على
المسلم حرام:
دمُه وعرضُه
ومالُه».
(تحريرًا
في الساعة 3:30 من
مساء يوم
الخميس: 3/صفر 1436هـ
= 27/نوفمبر2014م)
أبو
أسامة نور
مجلة
الداعي
الشهرية
الصادرة عن
دار العلوم
ديوبند ،
ربيع الثاني 1436
هـ =
يناير-فبراير
2015م ، العدد : 4 ،
السنة : 39